التخطي إلى المحتوى

على مدى أكثر من عشرين سنة ومنذ صدور كتابي «النقد الثقافي» عام 2000 وأدونيس لا ينفك عن تسديد لكماته لي وللكتاب وللنقد الثقافي بعامة، وللحق فهو لا ينقد ابتداءً وعقلنةً ولكنه يمارس فحسب رد فعله على وصفي له بأنه يمثل الحداثة الرجعية (الفصل السابع من الكتاب)، ولهذا فهو يتعرض دوماً لهجمات غير متوقعة في كل لقاء معه أو حوار صحفي عن وصفه بالحداثي الرجعي حسب مقولة الغذامي، وهنا يضطر للرد ويكون رده حسب درجة الحرج التي يقع فيها حين السؤال.
أما رد فعلي على رد فعله، فقد قلت قبل سنوات في جريدة الحياة (لو لم يكن أدونيس موجوداً لاخترعناه) وقد طرحت فكرة رجعية أدونيس ابتداءً عام 1997في بحث في مجلة فصول، وكان عدد المجلة حينها مخصصاً كله لأدونيس، وكان جابر عصفور، رحمه الله، قد طلب مني المشاركة في ذلك العدد، وقد طلبه مني بحضور أدونيس معنا وكنا حينها في لقاء عمل في أبوظبي ضم ثلاثتنا مع آخرين حول مشروع (كتاب في جريدة) الذي طرحته اليونسكو ويرأس التحرير شوقي عبد الأمير، وذلك لاختيار كتب عربية ذات معنى رمزي لتتبناه جرائد عربية وتصدره في هيئة جريدة وإن يك في أصله كتاباً، وتجاوبت مع الشروع جرائد عربية منها جريدة الاتحاد وجريدة الرياض وجريدة الأهرام وفي كل بلد عربي جريدة، واستمر المشروع لعدة سنوات ونشر فيه عدد من الكتب العربية ومنها كتابي (حكاية الحداثة) وغيره لكتاب عرب تم اختيارهم من كل بلد عربي، وفي تلك السنة عرف مني أدونيس أني أعمل على دراسة في الأنساق الثقافية العربية تعتمد الشعر بوصفه هوية ثقافية عربية (ديوان العرب) وهو أهم خطاب عربي كاشف للأنساق، ولم أبلغه أني سأتناول شعره ليكون مادةً للنقد، ولكنه لمس ذلك في بحثي في مجلة فصول وعنوانه (ما بعد الأدونيسية) وبعنوان فرعي هو (شهوة الأصل)، حيث كشفت فيه أصولية أدونيس ومرجعيته الجذرية، وإن تمظهر حداثياً ولكن جعبته تتغلف تحت غطاء لغة مكثفة تصنع أقنعة تخفي رجعيتها، وهي لغة تغري النقاد لتناوله، كل حسب منهجيته لما في لغة الشاعر من كثافات تجعل كل ناقد يسترسل مع تأويلات النصوص دون قيود تحددها النصوص، وهذا جعل معظم النقاد العرب يكتبون عن أدونيس لأن غموضه يعينهم على توظيف مهاراتهم تحت مظنة الحداثوية، وكذلك فنصوص أدونيس تغري الباحث في النقد الثقافي بأن يفكك أغطية النص ليكشف مضمراته التي هي مضمرات نسقية (رجعية)، وقد تفاجأ أدونيس حين رآها مكشوفة أمامه لتعري الخطاب وتكشف عيوبه وهذا ما لم يتوقعه من ناقد حداثي، ولهذا فأول رد فعل له علي هو في رسالة عتاب وصلتني عبر أصدقاء، يقول فيها قولوا لعبد الله ألم يجد رجعياً غيري من بين مئة مليون عربي من الخليج إلى المحيط، وجوابي كان أن كشف رجعية أدونيس إغراء بحثي لا يمكن تجاهله، وهي الحالة التي تتحدى المنهجية وتمنح لها مثالاً قوياً ولن يتحقق ذلك مع الرجعيين الصغار، حيث لا غرابة في هشاشة نصوصهم، بينما النص المظنون به الحداثوية هو النص الأخطر ثقافياً لأنه الأقدر على تمرير النسق وتجميله تماماً، كما فعلت مع كبار مثل أبي تمام والمتنبي ونزار قباني. حيث كشفت نسقياتهم في الكتاب نفسه، ولو كانوا أحياءً لما سلمت من ألسنتهم كما فعل أدونيس معي في ردود فعله المتواصلة منذ عام ألفين وآخرها في لقائه مع مجلة الأقلام العراقية حيث قال: (أرجو أن يغفر الشعر لصديقه الغذامي)، وسؤالي دوماً لأدونيس: لنفترض أني قلت في كتابي إن أدونيس هو المثال الأرقى للشعر الحداثي هل سيتكلم حينها ضدي وضد النقد الثقافي …؟!!، هذا سؤالي. أما تفسيري لردود أدونيس فهي بمقولة المتنبي (وعداوة الشعراء بئس المقتنى)، مع أني أتفهم دفاع أدونيس عن نفسه وأتفهم استفزاز الصحفيين له في كل مناسبة يحضرها ويأتيه سؤال عن كونه حداثياً رجعياً حسب زعم الغذامي، وهي لحظة حرجة بكل تأكيد وبسببها يكون رد أدونيس بمقدار قوة الحرج الذي يواجهه، وقد تنوعت ردود الفعل بين رد عاصف وآخر متعقل، حسب درجة الحرج الذي يقع فيه. ويظل أدونيس مادةً مغريةً للبحث بكل وجوهه لأن نصوصه تجمع الشيء ونقيضه وتصنع التحدي المنهجي، وهنا يتميز النقد الثقافي لأنه يبحث في المضمر النسقي المتغطي بغطاء جمالي مخاتل ومخادع.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *