التخطي إلى المحتوى

– مارينا ميلاد:

إنفوجرافيك: مايكل عادل

الخامس من سبتمبر. يبدو من الخارج أنه يوم عادي في شركة النصر لصناعة الكوك. تناوب العمال على “الورديات” الثلاثة. جاءت سيارات الشركة تنقلهم إلى ساحتها ذات المساحة الشاسعة بمنطقة التبين بحلوان. وبعض الآلات الضخمة القديمة لازالت دائرة وتنتج. لكنه في الحقيقة لم يكن يومًا عاديًا، فالجمعية العامة للشركة أبلغت العمال رسميًا بتصفيتها.

لا غرابة أو مفاجأة لهم. فقد بدأ الحديث عن هذا القرار منذ أواخر العام الماضي بعد تصفية رفيقتهم وجارتهم “الحديد والصلب”، والتي كانت عميلهم الأول لاعتمادها على فحم الكوك.

في ذلك اليوم، قَضى مصطفى حسنين “ورديته المسائية” داخل الشركة. تلك الليلة ليست كأيامه السابقة منذ عمله بها عام 1979.. كانت ليلة حزينة، مُقبضة عليه وزملائه الذين يتجاوز عددهم الألف عامل.

وبينما يغادر “مصطفى” في الصباح حين وصلت سيارة الشركة، كان الشخص المنوط به التصفية يجتمع داخلها مع رؤساء القطاعات ليبحث أموراً عدة يتعلق بعضها بسير العمل حتى ينتهي الإنتاج المتبقي ومستحقات العاملين، التي أوصى بها وزير قطاع الأعمال العام الجديد، محمود عصمت، أسوة بالعاملين بشركة الحديد والصلب.

صورة 1

كلا المصنعين (الحديد والصلب والكوك) شَكّلا صورة لمنطقة التبين في حلوان على أنها “من أوائل المدن الصناعية في إفريقيا”.. هكذا احتفت الصحف المصرية بها في الستينيات.

فحين افتتح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مصنع الحديد والصلب قال في كلمته: “كانت صناعة نحلم بها ونعتقد أنها بعيدة المنال.. وكل جنيه سنضعه في الاستثمار سيجعل عائلة تعيش جيدًا”.. لذا كرر التجربة مرة أخرى عام 1960 عندما قرر إنشاء مصنع لإنتاج كوك التعدين.

وبعد أربع سنوات.. لوَّح “عبد الناصر” مجددًا للعمال الموجودين بمنطقة “التبين”، يرافقه أليكسى كوسيجين، رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي. فقد نجح الروس في بناء صَرح ضخم يسمى “شركة النصر لصناعة الكوك”.

صورة 5

في طريق “مصطفى” الذي يقطعه من حلوان إلى بيته بمنطقة “شبرا”، استولى على تفكيره يومه الأول بالشركة. حين كان شابًا عمره 17 عامًا، حاصل على دبلوم فني، تَقدم إلى وظائفها، ونجح في الاختبار.

كانت الشركة تضج بالحركة، تمتلئ بـ6200 عامل، يصل إنتاجها لمليون طن، وبها رأس مال يقدر بـ100 مليون جنيه- بحسب حوار قديم لحلمي عمر، الذي تولى رئاستها منذ عام 1969.. استقبل “مصطفى” العمال القدامي ليعرفوه على مبانيها، منتجاتها، وطريقة عملها.

فالشركة تضم أربعة مصانع: الرئيسي لإنتاج الكوك، وآخر لتقطير القطران، والثالث للنترات، إلى جانب وحدة متعددة الأغراض والأقسام الكيماوية.

مَر “مصطفى” على ثلاث بطاريات تعمل بها الشركة، تضم اثنان منها 50 فرنًا بطاقة إنتاجية سنوية تقدر بـ328 ألف طن كوك، والثالثة تم تركيبها حديثًا بعدد 65 فرناً.. ذلك قبل أن تنضم لهم بطارية رابعة عام 1993 ليصبح الطاقة الإنتاجية لهم 1.6 مليون طن سنويًا – وفقًا لموقع الشركة.

كان “مصطفى” يعتقد أن “الكوك” هو منتج الشركة الوحيد بحكم اسمها، قبل أن يعرف أن منتجاتها تتنوع بين البنزول، كبريتات الأمونيوم، نترات الأمونيوم اللازمة لصناعة المتفجرات، النفتالين، القطران، ومنتجات أخرى تستخدم في المجالات الزراعية والصناعية والأغذية والإنتاج الحربى والبحث العلمى.

DC_845412

لم يطل الوقت حتى تَعين “مصطفى” في قسم معالجة المياه براتب 18 جنيهاً. لحُسن حظه كانت تلك الفترة الممتدة من الثمانينات حتى التسعينيات هي “عصر الشركة الذهبي”.

تحت عنوان “رائدة الكوك التعديني في الشرق الأوسط.. تحولت شركة النصر من مواجهة الخسائر إلى تحقيق الأرباح”، تحدث المهندس عادل الموزي، رئيس مجلس إدارتها، لجريدة الوفد عام 1986، قائلًا: “رشَّدنا الإنفاق، ركزنا على 35 منتجاً آخر ننتجه غير الكوك، ووصلنا إلى أفضل الأسعار مع موردي الفحم لنا”.

وكان الأهم في رأيه هو فتح أسواق جديدة لمنتجات الشركة والاهتمام بالتصدير، ذاكرًا أن الدليل هو رقم الصادرات الذي بلغ 5.5 مليون جنيه عام (1984-1985) بزيادة 176% عن العام السابق له.

ومنذ ذلك العام وحتى عام 1995، بلغ فائض الشركة 420 مليون جنيه في عشرة أعوام، بحسب ملخص تقرير اجتماع مجلس إدارة الشركة عام 1995.

يتذكر “مصطفى” فرحته آنذاك لوجوده في مكان حكومي مُنتج بهذا الشكل، وهو ما كان يعود عليهم بمكافآت وعلاوات دائمة؛ لذا لم يتوقع أبدًا أن يهتز هذا الاستقرار وتُعلن الجمعية العامة غير العادية للشركة تصفيتها، في جلستها الأخيرة.

جَاء القرار- وفقًا لبيان رسمي- لعدة أسباب كالحالة الفنية السيئة للبطاريات وجميع المصانع، توقف نشاط الكوك منذ أغسطس العام الماضي، عدم توافق الأوضاع البيئية للشركة مع القانون.

دعم ذلك دراسة الاستشاري العالمي DMT، الذي استعانت به الشركة القابضة لمعرفة جدوى الاستثمار في الشركة.

وأشارت الدراسة إلى تكاليف استثمارية باهظة لإنشاء بطاريتين وتجديد معدات، وأن لا فائدة من ذلك لارتباط إنتاج الكوك بوجود خطوط إنتاج للصلب باستخدام تكنولوجيا الأفران العالية، وهو ليس موجودًا في مصر الآن.. إضافة إلى عدم الاستقرار في أسعار الفحم، واستيراد الشركة له بالكامل، والاتجاه العالمي لتقليل الانبعاثات الملوثة بالتحول للهيدروجين بديلًا لفحم الكوك.

ذلك بجانب خسائر بلغت 339.3 مليون جنيه عن العام المالي الماضي، بحسب تقرير للجهاز المركزي للمحاسبات.

لم يصدق إيهاب رضوان، مدير إدارة إنتاج البطاريات وصيانتها بالشركة، أن الخسائر وصلت إلى هذا الحد، فيقول: “هناك خسائر بالتأكيد بعد جائحة كورونا كحال كل المؤسسات، إضافة إلى سوء الإدارة بالسنوات الأخيرة.. لكن كل ذلك لا يدفع بأي حال نحو التصفية”.

في تلك اللحظة التي توالت فيها على رأس “مصطفى” سنواته الطويلة بالشركة وجلسة تصفيتها وجدل زملائه حول القرار، تَمنَّى في داخله لو أن تطويراً حدث خلال السنوات الماضية، فربما تغير الحَال.

فالشركة- وفقًا لحديثه- لم تَعرف تطويرًا يُذكر بعد عام 2000؛ ما أدى إلى ضعف الإنتاج تدريجيًا، كما أنها احتاجت إلى بطارية حديثة ستقلل من الملوثات ولم يتم شراؤها.

يترك “مصطفى” سيارة الشركة بعد أن أوصلته إلى منطقته “شبرا”.. يخطو خطوات قليلة نحو بيته ولايزال يفكر في الأمر نفسه.. يتعجب من القدر الذي جمع مصيره بالشركة ليشهد نهايتها رغم أنه خَرج على المعاش.

فالرجل الذي أكمل الستين، أنهى فترة عمله بالشركة في إبريل الماضي. لكن خبرته الطويلة جعلتهم يطلبونه للعمل مجددًا بنظام العقد. ذلك النظام لم يكن مغريًا أبدًا لشخص مثله؛ إذ يحصل على 75 جنيهاً فقط في اليوم بعد أن وصل راتبه الشهري قبل المعاش إلى 10 آلاف جنيه.

كما أن لديه مشكلات في القلب، لا يمكن معها تحمل مزيد من الأتربة والأدخنة بالشركة، التي قد تسبب أمراضاً للعاملين بها؛ لذا وجه وزير قطاع الأعمال العام، بدراسة موقف هؤلاء الحالات.

لكن “مصطفى” يقول: “حبي للشركة دفعني للاستمرار، فقد أقمت بها أكثر من بيتي”.

صورة 4

يتابع الرجل الاجتماعات المتسارعة التي تجرى لتحديد مصير العمال وتعويضاتهم.

أحد هؤلاء العمال، هو محمد حسنين، الذي تعين عام 2008 ضمن “تعيينات أبناء العاملين” براتب 230 جنيهاً، ثم ازداد حتى وصل إلى 4500 جنيه. يقول “حسنين”: “من سيوفر عملاً لشخص تجاوز الأربعين؟ وإن وجدت فسأبدأ براتب أقل ودون تأمين صحي أو تموين شهري كالذي توفره الشركة.. وأنا لدي 5 أطفال”.

ثمة بدائل أخرى غير التصفية تحدث عنها “مصطفى” و”حسنين”، إلى جانب مدحت نافع، رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية السابق، وهي الاعتماد على نحو 20 منتجاً آخر تنتجها الشركة غير “الكوك”.

من بين الحلول التي طرحها “نافع”، تطوير مصنع الكيماويات ليستمر أو تتخصص الشركة في صناعة الأسمدة الآزوتية وهي “صناعة مربحة للغاية”- حسبما يقول خلال تصريحات تلفزيونية سابقة.

رئيسية

وفي أغسطس الماضي، أعلن عضو مجلس النواب، إيهاب رمزي، تقدمه بطلب إحاطة لوزير قطاع الأعمال العام لمناقشته في أمر التصفية، مؤكدًا “أنه لا بد أن تكون هناك حلول ولا يكون قرار تصفية الشركات الخيار الأسهل للحكومة”.

لكن في النهاية صارت شركة النصر للكوك هي الشركة الرابعة التي تتعرض للتصفية منذ عام 2018 بعد شركات الحديد والصلب، مصر للملاحة، والقومية للأسمنت. توقفت بطارياتها وباتت بلا نفع.. يجري الآن “تسخين بسيط” عليها يتم تقليله تدريجيًا حتى لا تحدث بها تشققات فتنهار – بحسب “مصطفى”.

عوامل عدة طوَّقت “النصر لصناعة الكوك” لتكتب نهاية قصتها التي بدأت قبل 58 عامًا. سيخفت صوت الشركة من آلات وعمال تدريجيًا حتى يصمت تمامًا. رأت الحكومة في ذلك منطقًا لأسباب كثيرة، في حين لم يكن مرضيًا لعمالها؛ فيقول “مصطفى”: “الجميع حزين.. فأنا خرجت على المعاش ومازلت أريد العمل بها.. فما بالكم بالأصغر!”.

اقرأ أيضًا:

أول تحرك من ممثلي عمال النصر للكوك بعد قرار التصفية

أول قرار في عهد “عصمت”.. كواليس تصفية شركة النصر للكوك

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *