التخطي إلى المحتوى

كتب محمد فحيلي، خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد:

غياب الأمن والرقابة والقضاء، واللامبالاة في التعاطي مع الإصلاحات من قبل الطبقة السياسية سوف يؤدّي حتماً إلى إقفال الوطن لا إلى إقفال المصارف فقط!

هدر الوقت أصبح نعمة الفاسد ونقمة الصالح في هذا الوطن الذي ينزف دماء أبنائه كلّ يوم. صمت المصرفيين وجشع السياسيين وجهل بعض المواطنين يزيد من آلام الوطن والمواطن!

في ردة فعل يائسة لتجمّع المصرفيين اللبنانيين على الاعتداءات المتكرّرة ضد فروع مصارفها، أعلنت جمعية مصارف لبنان الإقفال التحذيري. ثم إن “المصارف سوف تُبقي أبوابها مقفلة قسرياً”. واليوم تم إعلان العودة إلى العمل بشكل محدود “عبر قنوات يحدّدها كل مصرف”. إن دلّ هذا الإقفال أو عدمه على أيّ شيء فهو يدلّ على غياب إرادة المبادرة من قبل المصرفيين، وفقدان الرغبة في إقرار الإصلاحات وتنفيذها من قبل السلطة السياسية الحاكمة. وبما أن المواطن والوطن اليوم بحاجة إلى حلول وليس إلى تقاذف التُّهم بين الطرفين، بات المواطن يرى السلطة والمصارف وجهين لعملة واحدة.

لتجميل صورة الإقفال، وذلك لفقدان الاقتناع بصوابية هذا الإجراء، ابتدأت المصارف بترويج أنّ ما فعلته إقفالٌ وليس إضراباً، وهناك فرق كبير بين الاثنين. إقفال أبواب فروع المصارف أمام الزبائن لا يعني توقّف المصارف عن العمل. تابعت المصارف تأمين السيولة من ليرة لبنانية ودولار عبر الصراف الآلي، واستمرّت بتقديم كلّ الخدمات المتاحة عبر الصرّاف الآلي، إضافة إلى المتابعة في فتح اعتمادات للتجار، وتنفيذ تحاويل إلى الخارج، واستقبال تحاويل من الخارج للداخل اللبناني. ما دامت أبواب مصرف لبنان مفتوحة أمام المصارف، فسوف يكون من الممكن لكلّ مصرف الاستمرار بتقديم خدماته للزبائن وفق القنوات التي تتناغم مع قدراته. المصارف أقفلت فعلياً يوماً واحداً، يوم الإثنين في الـ19 من أيلول، وتمّ استدعاء الموظّفين إلى أعمالهم في اليوم التالي، يوم الثلاثاء، وبقيت أبواب الفروع مقفلة أمام عملاء السحوبات النقديّة، واستعيض عن ذلك بالصرّاف الآليّ. لهذا السبب، إقفال أبواب المصارف، حتى اليوم، ترك آثاراً خفيفة حتى على سعر الصرف في السوق الموازية إلا إذا أراد “صيّادو الدولار” استهداف الدولارات المخزّنة في المنازل، دولارات القرش الأبيض المحفوظة لليوم الأسود!

العودة عن الإقفال، وفتح أبواب فروع المصارف، سوف يكون افتتاحاً خجولاً وخاضعاً لكلّ أنواع الضوابط الأمنية التي تُظهر فروع المصارف كمراكز مخابرات لا كفروع لمؤسّسات ماليّة. على أمل أن لا تتحول عودة المصارف المحدودة إلى نوع من أنواع الاستنسابيّة والانتقائيّة في خدمة الزبائن، وهذا يظهر على مستوى الفرع، ويأتي بقرار من الإدارة العامة. الواضح أن الوضع الأمنيّ في فروع المصارف بات يهدّد بالخطر، أولاً لما له من تداعيات سلبيّة على أيّ محاولة للإنقاذ والتعافي الاقتصادي؛ وثانياً، بسبب الخوف من أن تتحوّل بهورات أحد مودعي “ما يأخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة” إلى مستنقع من الدم! وكأنه لا يكفي ما تتسبّب به زيارة المودع لفرع المصرف من قلق وضغوطات نفسيّة بسبب الضوابط والتغيير في قواعد الاشتباك كل يوم، حتى أصبحت السلامة مصدر قلق إضافيّ؛ وفي هذا لا لوم على المصرفيّ! من الواضح أن المفاوضات بين وزارة الداخلية وجمعية مصارف لبنان لم تنتج اتفاقاً حتى الآن بسبب غرور أو/و جهل الطرفين بأهميّة الوطن وضرورة تفوّق الأخير على أيّ اعتبار آخر أو مصلحة خاصّة.  

من البديهي، ويتوجّب على كلّ مواطن صالح أن يكون ضد الأمن الذاتي، وداعماً للجوء المصارف إلى أصحاب الاختصاص – قوى الأمن والقضاء – لتأمين الحدّ الأدنى من الأمن لموظفي الفروع وعملاء المصرف خلال ساعات العمل.

في المقلب الآخر، دخول نقابة موظفي المصارف على خطّ الإقفال زاد الأمور تعقيداً. لإعطاء شرعية إضافية لهذا الإقفال دخلت نقابة موظفي المصارف على خط تظهير ردود الفعل والمواقف، وأعلنت أنها تدعم الإقفال، وأنها مستمرة بالاعتكاف لتوصيل صوتها، لأن أمن المواطن الموظف في فروع المصارف هو واجب ومسؤولية. وقد يكون موقف نقابة الموظفين جزءاً من لعبة توزيع أدوار بين إدارات المصارف (أي أصحاب المصارف) والنقابة. الظروف المعيشية اليوم تفرض على موظفي المصارف أن يكونوا أكثر تفهماً وأكثر استجابة لرغبات أرباب أعمالهم.

وكان هناك محاولة لشيطنة تحرّك المصرفيين، ووجّهت أصابع الاتهام إليهم، لتحميلهم مسؤوليّة ارتفاع سعر صرف الدولار. من الخطأ إلقاء اللوم على المصارف لجهة الاضطرابات في سوق الصرف؛ “دلع الدولار” وُجد عندما كانت أبواب المصارف مفتوحة واستمرّ خلال إقفالها. وإذا ازدادت هذه الاضطرابات أثناء الإقفال، فالمسؤوليّة تقع على غياب الرقابة والمساءلة والمحاسبة وليس على المصارف والمصرفيين.

وكان هناك محاولة من نوع آخر للوقوف عند التدنّي من أهمية المصارف (إقفالاً أم غير ذلك) في المعادلة الاقتصادية في الداخل اللبناني من خلال القول والادعاء بأنّ لبنان تحوّل إلى اقتصاد يعتمد في القسم الأكبر على تمويل النشاطات الاقتصادية ووسائل الدفع على الأوراق النقدية (دولار ولبناني) وليس على النظام المصرفي، وهذا يخفف من التأثير الاقتصادي من جراء إقفال فروع المصارف. لكن الأهم هو أن تهميش دور المصارف في الدورة الاقتصادية يُفشل أيّ محاولة للإنقاذ والتعافي الاقتصادي المستدام. 

إذا كنّا نريد حقّاً العودة إلى حياة طبيعيّة بحدّها الأدنى، فيجب علينا أن نسارع إلى إطلاق عجلة التفاوض بين المودعين والمصارف بمعزل عن أيّ خطّة للتعافي قد تطرحها الحكومة. وهذا يبدأ بإطلاق شرارة التواصل الإيجابي بين الطرفين للوصول إلى التواصل المنتج لجهة إطلاق عجلة إعادة ترميم الثقة، ومن ثَمَّ التفاوض المثمر. من الطبيعي أن تكون المصارف التجارية مختلفة جداً لجهة قدرة كلّ مصرف منها على الاستمرار في خدمة الاقتصاد وتأمين التمويل المطلوب من قبل الأفراد والمؤسّسات. فرز المصارف بين من هو قادر على الاستمرار في خدمة الاقتصاد وغيره أصبح ضرورة للمصرفيين أكثر منه للطبقة السياسية أو صندوق النقد الدولي لانتزاع إعادة هيكلة المصارف من سلطنة السياسين الفاسدين والفاشلين، ووضعها بين أيدي أصحاب الاختصاص – لجنة الرقابة على المصارف. نقطة الانطلاق هي الاجتماع والاتفاق على أهميّة الامتثال لأحكام تعميم مصرف لبنان الأساسيّ رقم 154، والوقوف جبهة واحدة بوجه السّلطة السياسية في محاولتها شطب الودائع و/أو إعطاء تراخيص لمصارف أجنبية. وجود مصارف أجنبية جديدة برأسمال جديد ونظيف سوف يجرّد المصارف التجارية القائمة حالياً من كلّ الحسابات المفتوحة تحت أحكام التعميم الأساسي رقم 150، وسوف يكون وجهة ومقصدَ كلّ الدولارات النظيفة المحفوظة في الخزنات الحديدية في المنازل، والقسط الأكبر من الخدمات المصرفية؛ وبهذا تترك المصارف القديمة لتختنق بفساد وهدر الطبقة السياسية القديمة الجديدة.

Scan the code